حديقة الألحان
بقلم الكاتب: خير الدين عبيد
فكّت أنغام جديلتها، أطفأت المصباح، واندسّت في فراشها، كقطّة صغيرة. في المنام، رأت نفسها في حديقة بيتها، فجاءها طائر الكروان، وحطّ على شجرة الورد ثمّ شدا قائلاً:
- مرحباً أيتّها الحلوة، ماذا تفعلين في الحديقة؟
نظرت أنغام حولها، فشاهدت على شجرة الورد، طائراً ذا ريش ملوّن جميل ابتسمت له وقالت:
- أنا آكل البوظة، تفضّل، الحس، إنها لذيذة ومدّت إليه يدها.
- شكراً لكِ، الثلّج يؤثّر على حنجرتي، وأخشى أن يبحّ صوتي.
- إذا سمحت، غرّد قليلاً، أنا أحبّ صوت الطيور.
حرّك الكروان حنجرته، وشدا، فتمايلت أغصان الوردة طرباً، صفقت أنغام ناسية البوظة فسقطت على الأرض، وذابت.
توقف الكروان، وقال:
- أأعجبك تغريدي؟
-الله... إنه رائع، ولكن أين تعلمت الغناء؟
- تعلمته في حديقة الألحان!
- وهل أستطيع أن أتعرّف إليها؟
- بالتأكيد... إنها حديقة رائعة.
ثمّ رفع الكروان رأسه إلى السّماء، وشدا بصوت عال، فجاء سرب من الكروان، يحمل سلّة قشّ صغيرة، مربوطة بخيوط ملوّنة، وقد أمسك كلّ كروان طرف خيط بمنقاره.
هبطت الكراوين بالسّلة، نطّت أنغام وجلست فيها، بينما وقف صديقها الطائر على كتفها، ثمّ طرن بها نحو السماء.
شاهدت أنغام أطفالاً يلعبون على أسطحة البيوت، كانوا صغاراً كالدمى بينما بدا النهر مثل خيط أزرق.
مرّ السرب على غيمة بيضاء، فحاولت أن تكمش بيدها قطعة صغيرة، لكنّها لم تستطع، لأن ذرّات البخار، كانت تفرّ من بين أصابعها، كالماء.
وصل السرب إلى الحديقة، أعطى الكروان أوامره بالنزول، فهبطت، قفزت أنغام من السلّة شكرت الكراوين، وسارت نحو مدخل الحديقة.
كانت حديقة الألحان، مسوّرة بأعواد القصب الصفراء، بينما كان الطريق مفروشاً بأزاهير بيضاء، أمّا الأزاهير الحمراء، فقد شكلّت خمسة خطوط متوازية.
سألت أنغام الكروان:
- ما هذه الخطوط، أيّها الصديق؟
- إنها المدرج الموسيقي!
دخلا الحديقة، فرحت الأشجار واهتزّت مصدرة أصواتاً حلوةً ناعمة.
رفعت أنغام عينيها، فشاهدت أعداداً كبيرة من الأجراس، معلقة على الأشجار، سألت دهشةً:
- لماذا تحمل الأشجار أجراساً؟
ابتسم الكروان وقال:
- لكي تشارك الطيور في ألحانها.
وصلت أنغام إلى ساحة الحديقة، والكروان ما يزال يقف على كتفها، فتوقفت فجأة أمام نصب كبير، له شكل غريب، التفتت إلى صديقها وسألته:
- ما هذا الشكّل؟
- إنه مفتاح صول!!
جلست أنغام على مقعد خشبي، وراحت تتأمّل بإعجاب، ذاك المفتاح الجميل. فجأة، سمعت صوتاً حزيناً، كصوت أمّها، ينبعث من ورائها، التفتت نحوه فشاهدت آلة الكمان، تقف على حافة بركة ماء، تحرّك قوسها فوق أوتارها وتصدر لحناً شجيّاً.
طار الكروان إليها، وقف على قوسها، وسألها مستفسراً:
- لماذا تعزفين بمفردك يا صديقي...
أين العود والطبلة؟
تأوّهت الكمان، وأجابت:
- في الصباح، عندما طرتِ إلى المدينة، جاء العود وأهانني!
- العود؟!
- نعم.. اتهمّني بأن زندي قصير، وأوتاري أربعة، بينما يملك هو خمسة أوتار.
- وماذا أجبته؟
- قلت، إن الإبداع لا يتعلق بكثرة الأوتار وقلّتها، فأنا أصدر طبقات صوتية عالية، لا
يستطيع غيري، وإن كان له ستة أوتار، أن يصدرها. تنهّد القوس قائلاً:
- واللّه، أيّها الكروان الحبيب، لو لم تمنعني الكمان، لألهبت ظهر العود ضرباً.
نظر الكروان إلى القوس، وقال:
- لا يا قوس، يجب ألاّ نقابل الإساءة بمثلها.
ثمّ طار الكروان، واختفى بين الأشجار، وبعد مدّة قصيرة، عاد بصحبة العود والطبلة.
اعتذر العود من صديقته الكمان، وأهداها ميدالية، على شكل مفتاح صول صغير.
دقّ قلب الطبلة، وأصدرت ضربات فرحة، ثم قالت:
- لن تختلفا بعد اليوم، فأنا سأضبط إيقاعيكما.
عزفت الآلات، وشدا الكروان.
اهتزت الأجراس، حام الفراش، وزقزقت العصافير.
فتحت أنغام عينيها، نظرت حولها، فلم تجد الحديقة، لكنّ صدى الألحان بقي يرنّ في أذنيها الصغيرتين.