بعنوان: القلم الساحر
بقلم الكاتب: السيد نجم
ما أن تستضاء الأرض في مطلع كل نهار, حتى ينهض "توما" من النوم, ويمسح بجبهته التراب, تحية لله, ثم يجمع أدوات الكتابة .. القلم المصنوع من أعواد الغاب, وأحبار سوداء صنعها من نبات النيلة, وملف كبير من أوراق البردي.
بعدها يذهب إلى مدخل سوق القرية, فيكتب للفلاحين الشكاوى والمظالم, وما جعل الجميع يحبونه كثيرا, كما أحبهم.
في صباح كل يوم جديد , يتربع "توما" في جلسته فوق المقعد الحجري. فهو صاحب لقب "حامل القلم", بعد أن درس الحكمة وفنون الكتابة في "بيت الحياة" وهو الملحق بمعبد مدينة "طيبة" عاصمة الدولة. في هذا الصباح بالذات, شاف "توما" علامات الفزع على وجوه الناس, علم أن اللصوص هاجموا كل حظائر القرية في ليلة الأمس, وسرقوا البهائم وأيضا القمح والشعير من المخازن.
حزت "توما" حزنا شديدا, وبينما جلس يفكر ويبحث عن حل مناسب, دخل عليه ثلاثة رجال يعرفهم .. شيخ البلد, شيخ الخفر, أحد أشراف القرية. رحب بهم, وبدأوا جميعا في حديث طويل.
قال شيخ البلد:
"يا "توما"..إن المسافر يجئ إلينا بالحمير المحمّلة بالتوابل والملح والأخشاب.
أما أنت فقد سافرت وعدت إلينا بالعلم والمعرفة والحكمة .. وميزك الله بالقلم"
تابع شيخ الخفر:
"أعترف أني عاجز عن مواجهة هؤلاء الأشرار, لم تعد قوة رجالي تكفى, أنا وكل الخفر في حاجة للاستماع إلى حكمة قلمك"
شارك الشريف قائلا:
"أهل قريتنا طيبون, ليس فينا من يسئ إلى آخر, ونحن معا نطعم الجائع, ونكسو العاري, ونحترم المسن, ونساعد الأرامل واليتامى"
بانفعال قال شيخ الخفر معلقا:
"ليس عندي غير الرمح والسهم, نمزق بها أجسادهم .. ماذا يفعل "القلم" المصنوع من الغاب الضعيف؟ الناس في القرية خائفين من اللصوص!"
وقف "توما" وكأنه اكتشف الفكرة الساحرة, والحل العجيب المدهش, قال لهم:
" وجدت الحل.. لن نقضى على الأشرار قبل أن نقضى على الخوف الذي يملأ قلوب الناس"
فنظر ثلاثتهم إلى بعضهم البعض في دهشة!! .. من جديد تابع "توما" قائلا:
"من يحاول أن يخرس القلم, سوف يخرسه الله إلى الأبد"
ففهموا ما يعنيه حامل القلم "توما", وانتظروا تفاصيل الفكرة التي يريد تنفيذها.
...... ....... ...... ....
وفى اليوم الجديد, سمع أهل القرية غواق الغربان كلها (صوت الغراب), تساءلوا في حيرة وقلق:
"هذا الصوت نذير سوء, ماذا حدث ليلة الأمس؟؟"
وخرج شيخ الخفر ورجاله يبحثون عما حدث, فعلموا أن الفلاح الفقير الأخرس "نو" اختفى في ليلة الأمس !. فلما كانت زوجته ممن يتكلمون وليست خرساء, أخبرتهم بالتفاصيل كلها .. وقالت وهى حزينة حزنا شديدا:
"بعد منتصف ليلة الأمس, دخل علينا ثلاثة لصوص ملثمين, يضعون قطعا من الكتان فوق وجوههم .. هددوا زوجي المسكين الأخرس, ثم سرقوا كل ما نملك. سرقوا الصندوق الخشبي الأسود الذي نحتفظ بداخله بكل ما نملك"
وبعد أن فر اللصوص بالصندوق, خرج الفلاح الأخرس الفقير "نو" ولم يعد حتى الصباح.
..... ....... ....... ......
وبينما جلس الفلاح "نو" عند ضفة النهر يبكى, منذ شروق الشمس وحتى غروبه, ظل الرجل يبكي وهو يبتهل إلى الله.. أن يسمع شكواه, وأن يستجيب إلى دعواته في التخلص من اللصوص .. وعودة ثروته القليلة التي يملكها.
وفجأة لمح سطح مياه النهر يعلو .. نعم, يرتفع إلى أعلى, ثم تنشق المياه إلى نصفين. وإذا بحورية جميلة تخرج من الشق الذي رآه في النهر .. كانت جميلة ورشيقة, ولها شعر أسود طويل يصل إلى نصفها السفلي, نصفها الذي هو على هيئة زعنفة سمكة.
بكل ما يملك من قوة حاول "نو" أن يبدو قويا, وأشار لها بيده وهو يرجوها ألا تؤذيه. فضحكت الجميلة, وقالت له:
" لا تخف يا عم نو... جئت كي أراك وأطلب منك الاطمئنان لأن الله يحمى الضعفاء, وأنت قاومت اللصوص, لكنهم كانوا أقوى منك"
ثم اختفت بسرعة, وعادت مياه النهر إلى سابق حالها, وكأن شيئا لم يكن..!
من شدة الخوف, بدأ الفلاح المسكين الأخرس "نو" يدعو الله قائلا في نفسه:
"أنت الله, سيد السماء والأرض, ولا تشرق الشمس إلا بأمرك....
أدعوك أن تبدد شقائي, وخوفي, وتعيد لي الصندوق الخشبي"
بينما هو هكذا, إذا بسطح مياه النهر تنشق ثانية, وتخرج العروس الجميلة مبتسمة. اقتربت منه, وأعطته قطعة صغيرة من الغاب , صفراء اللون, ذهبية المظهر مع ضوء القمر الساطع في كبد السماء.
أمسك "نو" بقطعة الغاب دهشا, ومن جديد بدأ يبكى. وكلما سقطت دمعة فوق قطعة الغاب تشكلت بشكل القلم الذي يشبه قلم "حامل القلم توما"!!
أسرع عائدا إلى زوجته التي فرحت بعودته, أخبرها بطريقته بكل ما حدث, وفهمت كل الحكاية. معا خرج إلى بيت شيخ البلد فورا.
قصت الزوجة المخلصة كل تفاصيل الحكاية, حكاية القلم السحري هذا. ولم ينتظر شيخ البلد طويلا, استدعى شيخ الخفر وشريف القرية, وأسرعوا جميعا إلى دار توما".
قالوا جميعا لتوما:
"الآن حان الوقت ليبرز دورك يا حامل القلم.. أنها رسالة الله إليك في هذا القلم,
وعلى يد هذا الفقير "نو"."
...... ....... ....... ........
في الصباح الجديد, جلس "توما" عند رأس السوق, فوق المقعد الحجري كعادته .. يكتب على الورق البردي, ثم يدور بين لناس في السوق يوزعها عليهم.
كتب في اليوم لأول يقول: (أهلي قريتي الأحباء..كل صباح ومساء قولوا معي .. أيها اللصوص ستصيرون شعلة من النار, وستغرقون , بسبب شروركم) لفترة تجاهل الناس ما يقرأون, ويديرون وجوههم أمام نظرات "توما" المعاتبة لهم كلما التقى بهم داخل السوق أو خارجه.
في يوم آخر كتب "توما" يقول: (أنت يا من تقرأ تلك البردية .. لا تجعل وجهك يعبس مما حدث وحسب, يجب أن تدبر أمرك في هدوء وبسرعة) فبدأ الناس يتساءلون, ويتناقشون معا:
" ماذا نفعل واللصوص أقوياء وأشرار؟"
" كيف نواجههم ؟؟"
فرح "توما" بالأسئلة, وقال لهم جميعا:
"الخطوة الأولى, أن تقلعوا الخوف من قلوبكم, وأن تزرعوا الشجاعة مكانها).
رويدا بدأ الجميع يردد أقوال توما, وحفظها الأطفال الصغار, وحتى إن لم يفهموا معناها. وفى الأسواق وفى كل مكان بدأ الجميع يغنى, بقلع الخوف وزرع الشجاعة !!
وأصبحت كلمات "توما" تردد في الأفراح, وأيام تحنيط موتاهم.
....... ...... ....... ......
كانت السيدة العجوز "حور" تجمع البيض في السلة كل أسبوع, لتبيعها في السوق وتشترى ما تحتاجه من قمح وفاكهة وغيرها. وهى في طريقها إلى السوق, قابلها اللصوص واستولوا على السلة الممتلئة بالبيض!!
الحقيقة لم يكن الأمر هكذا ببساطة وسهولة, لأن السيدة العجوز لم تستسلم للصوص. فقد قال لها كبيرهم:
"أعطنا السلة أيتها العجوز "
فقالت لهم:
" أنا سيدة عجوز, وبهذا البيض سوف أحضر طعامي لأسبوع كامل...
أرجوكم , اتركوه لي ..."
فضحك اللصوص, وسخروا منها ومن دموعها, حتى قال أحدهم:
" لماذا العناد أيتها العجوز, سوف تنفذين أوامرنا فورا؟ "
فلما لمحت العجوز أحد شباب القرية, قادم من بعيد, تشجعت, وصرخت في اللصوص بصوت مرتفع, قالت:
" لن يحدث, لن أعطيكم طعامي لأسبوع كامل..."
فلما ضحك اللصوص ثانية, قالت:
" لن يرحمكم الله لو حاولتم استخدام القوة معي..."
أحد اللصوص صرخ فيها:
" دعك من الحكمة التي يصيح بها "توما" ليل نهار"
فهمس أحد اللصوص إلى كبيرهم:
" يبدو أننا سوف نعانى كثيرا بعد كلمات "توما" هذا"
وما أن بدأ أحدهم انتزاع السلة من يد العجوز بالقوة, بدأت العجوز في المقاومة, وضمت السلة إلى صدرها بقوة, وبدأت تصرخ بكل قوتها:
"لن أدعكم تسرقوني .... اقتلوني ولا تأخذوا طعامي"
ما بين الشد والجذب بين اللصوص والعجوز..سقطت السلة إلى الأرض, وتحطم البيض!
وكانت لحظة وصول شباب القرية, اندفعوا جميعا نحو اللصوص, للمرة الأولى يفاجأ اللصوص بمقاومة شباب القرية, فأسرعوا يجرون في كل اتجاه, وفى كل مكان بعيدا عن العجوز والشباب القوى !
للمرة الأولى يعدو اللصوص, ويرجون النجاة من أحد أفراد القرية!
..... ...... ..... ......
بسرعة وصل اللصوص إلى المغارة البعيدة القاطنة في قلب الجبل القريب من القرية, بدأ كبيرهم الكلام محذرا من المستقبل وهو يتساءل:
" ما حدث اليوم خطير يا رجالي .. يجب أن نبدأ خطة جديدة"
علق آخر:
" بل يجب أن ننزل بكل سكان القرية العقاب الشديد على ما بدر من شبابهم اليوم..."
وبعد مناقشات طالت, علق كبيرهم في حسم قائلا:
"اسمعوا.. يجب تنفيذ كل كلمة أنطق بها الآن.
إن سر ما حدث كان بسبب كلمات الكاتب "توما", ولا حل إلا أن نسكت هذا القلم."
فعلق الجميع في دهشة:
" وماذا نفعل مع الكلمات أو هذا القلم المصنوع من الغاب؟؟!"
جادا علق كبيرهم:
" نعم.. سوف نسرق هذا القلم, مهما كلفنا ذلك من جهد أو مشقة"
ردوا عليه بصوت متردد:
" موافقون!!!"
...... ....... ....... .......
بينما كان صاحب القلم الساحر "توما" خارج داره, يتأمل السماء الصافية والنجوم المتلألئة ليلا في منتصف الليل. إذا باللصوص يتسللون إلى داره , يبعثرون كل شئ, يبحثون عن القلم الساحر. ولم يشعر بهم "توما" لفترة طويلة, حتى نجحوا في مهمتهم الشريرة !
في الصباح انتشر الخبر, وعلم أهل القرية بما حدث مع "توما" وقلمه السحري. ومع ذلك ردد الجميع, وقالوا لتوما:
"كلماتك الآن في قلوبنا, لسنا في حاجة لي القلم المسروق"
فرح "توما " بما سمع, ولم يعلق.
وبينما شيخ القرية وشيخ الخفر وشريف القرية , كلهم معا يتحدثون مع "توما". سمع الجميع بعض الضوضاء في مؤخرة السوق هناك.
اندفعوا ...
كلموا اقتربوا أكثر من مصدر الهرج والمرج والضجيج, كلما اتضح الموقف أكثر..لقد حاول اللصوص سرقة الماشية كعادتهم في الأسواق..لكن ما حدث اليوم, أن قاومهم الجميع.. الصغير والكبير, الرجال والنساء.. كل أهل القرية الموجودون في السوق قاوموا اللصوص. أنزلوا بهم إصابات شديدة, وعجز كل اللصوص عن الفرار!!
وبدأت مهمة الخفر, ليعلن شيخ الخفر أنه تم القبض على كل اللصوص. وبعده أعلن شيخ القرية عن شكره إلى الجميع, وقبلهم كلهم "توما" الكاتب المخلص الأمين .. وابتسم وهو يقول:
"بل كل الشكر إلى قلمه الساحر العجيب"
هلل الجميع, وزغردت السيدات, ثم طلبوا أن يسمعوا كلمات "توما" إليهم, بعد انتصارهم على اللصوص, فقال:
"سوف يهلك كل من يحاول سرقة أهل قريتنا ....
ليس بسبب القلم الساحر كما تقولون.. لأنه سرق!!"
فعبر الجميع عن خوفهم, وانزعجوا, ليتابع "توما" قائلا:
" الآن القلم الساحر أصبح في قلوبكم.. وكل كلمة أنتم قادرون على تنفيذها قبل أن يكتبها, لأنكم أصحاب حق, ولا تقولون أو تفعلون إلا الحق".
ومن جديد هلل الجميع فرحا بعد خوف وقلق. وقضت القرية ليلة من أسعد الليالي, ما بين الغناء والرقص والأفراح في كل مكان.