عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعجب من شاب لا صبوة له ووجهه الاعجاب القدرة على حكم زمام النفس وزجرها مع تركيب الشهية وتوفر الدواعي وما تكلفه في الأصل من أن المواد بالإعجاب أثره واضح لا يحتاج إليه لأنه وما شاكله من الرحمة التي هي رقة القلب لا تكون إلا لذي المزاج ولما علم بالضرورة تنزهه عن الأجسام والأعراض علم برؤه من لوازمها فما وقع مما يوهم شيئاً فالمراد لازمه ولصحة هذا الحديث واشتهاره بين الأكابر جاء تضمينه في أشعارهم كثيراً فمن ألطف ما قيل في ذلك قول ابن الصائغ:
سأكتم ما ألقاه يا نور ناظري ... من الأجر كيلا يذهب الأجر باطلا
فقد جاءنا عن سيد الخلق أحمد ... ومن كان براً بالعباد وواصلا
بأن الذي في الحب يكتم وجده ... يموت شهيداً في الفراديس نازلا
رواه سويد عن علي بن مسهر ... فما فيه من شك لمن كان عاقلاً
وماذا كثيراً للذي مات مغرماً ... سقيماً عليلاً بالهوى متشاغلا
وألطف من ذلك ما حكاه التاج السبكي في الطبقات الكبرى عن أبي نواس قال مضيت إلى باب أزهر والمحدثون ينتظرون خروجه فما كان إلا أن خرج وجعل يعظهم واحداً بعد واحد حتى التفت إلي فقال ما حاجتك فقلت:
ولقد كنتم رويتم ... عن سعيد عن قتادة
عن سعيد بن المسيب ... أن سعد بن عباده
قال من مات محباً ... فله أجر شهاده
فقال أزهر نعم وذكر الحديث ولأبي نواس أيضاً:
حدثنا الخفاف عن وائل ... وخالد الحذاء عن جابر
ومسعر عن بعض أصحابه ... يرفعه الشيخ إلى عامر
وابن جريج عن سعيد وعن ... قتادة الماضي وعن غابر
قالوا جميعاً أيما طفلة ... علقها ذو خلق طاهر
فواصلته ثم دامت له ... على وصال الحافظ الذاكر
كانت لها الجنة مبذولة ... تمرح في مرتعها الزاهر
وأي معشوق جفا عاشقاً ... بعد وصال ناعم ناضر
ففي عذاب اللّه مثوى له ... بعداً له من ظالم غادر
وفي رستاق الاتفاق في ملح شعراء الآفاق لابن المبارك الامام:
حدثنا سفيان عن جابر ... عن خالد عن سهل الساعدي
يرفعه من مات عشقاً فقد ... استوجب الأجر من الماجد
وأما الآثار فكثيرة لا تكاد تحصى ولكن نورد ألطفها كما هو شأننا فمن ذلك ما روى عن المهدي قال: أشتهي أن أصلي على جنازة عاشق مات في الحب وكان شريح يكثر الجلوس في الطرقات ويقول لعلي أرى صورة حسنة وكان ابن الليث قاضي مصر يكتب في فتياً فسمع جارية تقول:
ترى في الحكومة يا سيدي ... على من تعشق أن يقتلا
فرمى القلم من يده وهو يقول: لا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما :الهوى إله معبود فقيل له أتقول ذلك فقال نعم أليس الله تعالى يقول أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال العباس بن الأحنف:
ويح المحبين ما أشقى جدودهم ... إن كان مثلي الذي بي للمحبينا
يشقون في هذه الدنيا بعشقهم ... لا يدركون بها دنيا ولا دينا
يرق قلبي لأهل العشق إنهم ... إذا رأوني وما ألقى يرقونا
وله أيضاً:
أيها النادب قوماً هلكوا ... صارت الأرض عليهم طبقا
أندب العشاق لا غيرهم ... إنما الهالك من قد عشقا
وأخرج ابن الحسين الجاذري عن معن بن عيسى قال دخل ابن سحنون على مالك فقال يا إمام اجعلني في حل من أبيات قلتها فيك فقال وقد ظن أنه هجاه أنت في حل من ذلك فأنشد الأبيات بين يديه وهي:
سلوا مالك المفتي عن اللهو والغنا ... وحب الحسان المعجبات الفوارك
ينبئكم إني مصاب وإنما ... أسلي هموم النفس عني بذلك
فهل في محب يكتم الحب والهوى ... أثام وهل في ضمة المتهالك
فضحك وقال لا إن شاء الله ،وأظرف من ذلك ما أخرجه أبو نعيم في الحلية عن الربيع بن سليمان قال دخل شاب على الشافعي برقعة فوقع فيها بعدما نظر وناوله إياها فتبعته على أنها فتياً أكتبها فإذا هي:
سل العالم المكي هل في تزاوره ... وضم المشتاق الفؤاد جناح
فكتب تحته:
أقول معاذ اللّه أن يذهب التقي ... تلاصق أكباد بهن جراح
فأنكرت كتابته مثل هذا الشاب وذكرته له فقال أنه هاشمي وقد دخل بعرسه في هذا الشهر يعني رمضان فسأل عن الضم والتقبيل هل يفسدان الصوم فقلت له لا قال الربيع فعاودته فإذا الأمر كذلك فعجبت من فراسته وحكى في الأصل عن ابن حجر قال أخرج أبو نعيم أيضاً عن ابن سيرين أنهم كانوا يعشون بلا ريبة وفي الطبقات الكبرى لابن السبكي وحكاه في الأصل متردداً قال كتب جلال الدولة إلى أبي الطيب الطبري سؤالاً صورته:
يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد
من حب ظبي أهيف أغيد ... سهل المحيا حسن القد
فهل ترى تقبيله جائزاً ... في النحر والعينين والخد
من غير ما فحش ولا ريبة ... بل بعناق جائز الحد
إن أنت لم تفت فإني إذاً ... أصيح من وجدي واستعدي
فأجابه:
يا أيها السائل إني أرى ... تقبيلك العين مع الخد
يفضي إلى ما بعده فاجتنب ... قبلته بالجد والجهد
فإن من يرتع في روضة ... لا بد أن يجني من الورد
وإن من تحسبه ناسكاً ... لا بد أن يغلب بالوجد
فاستشعر العفة وأعصى الهوى ... يسلم لك الدين مع الود
تغنيك عنه كاعب ناهد ... تضمها بالملك والعقد
تملك منها كلمة تشتهي ... من غير ما فحش ولا رد
هذا جوابي لقتيل الهوى ... فلا تكن بالحق تستعدي
وأخرج الخطيب البغدادي عن الغزي قال رأيت عاشقين اجتمعا فتحدثا من أول الليل إلى الغداة ثم قاما إلى الصلاة وفي معناه أنشد العلامة محمود لنفسه وهو من لزوم ما لا يلزم
للّه وقفة عاشقين تلاقيا ... من بعد طول نوى وبعد مزار
يتعاطيان من الغرام مدامة ... زادتهما بعداً من الأوزار
صدقا الغرام فلم يمل طرف إلى ... فحش ولا كف لحل ازار
فتلاقيا وتفرقا وكلاهما ... لم يخش مطعن عائب أوزاري
ومنه ما حكى عن بعضهم قال حكت لي امرأة عن شخص هويها وهويته أنه قال لها يوماً ها لك أن نحقق ما قيل فينا فقالت معاذ الله أن أفعل ذلك وأنا أقرأ الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وقيل لأعرابي ليلة تزويج محبوبته أيسرك أن تظفر بها قال نعم قيل فما كنت تصنع بها قال أطيع الحب في لثمها وأعصي الشيطان في اثمها.
وعن الأصمعي قيل لأعرابي ما تصنع إن ظفرت بمحبوبتك قال امتع عيني من وجهها وسمعي من حديثها واستر منها ما يحرم كشفه إلا عند حله وأنشد ابن القاسم في المعنى وإن كان فيه بعد لأنك تعتبر الحياء من الايمان اللازم للعفة وخوف الله تعالى:
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وقد أودى بمعقولي
يأبى الحياء وشيبي أن ألم به ... وخشية اللوم من قال ومن قيل
وأصرح منه في المقصود ما أنشده إبراهيم بن عرفة:
كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف اللّه والحذر
وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر
أهوى الحسان وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحب لا اتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر
وأخرج صاحب الأصل عن سعيد بن عقبة الهمذاني قال لأعرابي حضر مجلسه ممن الرجل قال من قوم إذا عشقوا ماتوا فقال عذري ورب الكعبة ثم سأله علة ذلك فقال لأن في نسائنا صباحة وفي فتياتنا عفة وأخرجه في الخليفيات أيضاً وفي معناه أنشد حرب:
ما أن دعاني الهوى لفاحشة ... ألا عصاني الحياء والكرم
فلا إلى محرم مددت يدي ... ولا مشت بي لزلة قدم
هذا ما جاء في الآثار من العشق مع العفة وأما ما يدل على كثرة وقوعه واختصاص قوم بمزيد منه فكثير. فمن ذلك ما أخرجه التنوخي عن عروة بن الزبير قال قلت لعذري أنكم أرق الناس قلوباً يريد أصباهم إلى الحب فقال نعم لقد تركت ثلاثين شاباً خامرهم السل ما بهم داء إلا الحب وقيل لشخص منهم مثله فقال كقوله وزاد لكن غلبتنا بنو عامر بمجونها وفي منازل الأحباب للشهاب محمود ليس حي أصدق في الحب من بني عذرة ولا نضرب الأمثال فيه إلا بهم وقال قلت يوماً أتعدون موتكم في الحب مزية وهو من ضعف البنية وهن العقدة وضيق الرئة فقال أما والله لو رأيتم المحاجر البلج ترشق بالعيون الدعج من تحت الحواجب الزج والشفاه السمر تبسم عن الثنايا الغر كأنها شذر الدر لجعلتموها اللات والعزى وتركتم الإسلام وراء ظهوركم وعن أبي عمرو بن العلاء قال استنطقت إعرابياً عند الكعبة واستنسبته لماذا هو فصيح عذري فسألته هل علقه الحب فأنبأ عن شدة ولوع فسألته ما قال في ذلك فأنشد:
تتبعن مرمى الوحش حتى رميتنا ... من النبل لا بالطائشات المخاطف
ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف
وللعين ملهى في البلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الظرائف
وقال بعض حكماء الهند ما علق العشق بأحد عندنا إلا وعزينا أهله فيه. وحكى الحافظ مغلطاي أن العشق يختلف باختلاف أصحابه قال الغرام أشد ما يكون مع الفراغ وتكرار التردد إلى المعشوق والعجز عن الوصول إليه فعلى هذا يكون أخف الناس عشقاً الملوك ثم من دونهم لاشتغالهم بتدبير الملك وقدرتهم على مرادهم ولكن قد يتذللون للمحبوب لما في ذلك من مزيد اللذة كقول الحكم بن هشام
ظل من فرط حبه مملوكاً ... ولقد كان قبل ذاك مليكا
تركته جآذر القصر صباً ... مستهاماً على الصعيد تريكا
يجعل الخد واضعاً تحت ترب ... للذي يجعل الحرير أريكا
هكذا يحسن التذلل بالحرّ ... إذا كان في الهوى مملوكا
وقول الرشيد أيضاً
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطعيهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
وقال ابن الأحمر سلطان الأندلس:
أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي ... على كل حال أنت لا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بالهوى ... وأما بعز وهو أليق بالملك
وقال ابن طاهر صاحب خراسان:
فإني وإن حنت إليك ضمائري ... فما قدر حبي أن يذلك له قدري
ودونهم أفرغ لقلة الاشتغال حتى يكون المتفرغ له بالذات أهل البادية لعدم اشتغالهم بعوائق ومن ثم هم أكثر الناس موتاً به. ثم أعلم أن العشق متى استولى لم يبق صفة سواه ولذلك يذهب الأخلاق العسرة وقوة النفس وفي معنى ذلك أنشد بعضهم حيث قال في رسالة أرسلها إلى محبوبته:
شكوت فقالت كل هذا تبرم ... بحبي أراح اللّه قلبك من حبي
فما كتمت الحب قالت لشد ما ... صبرت وما هذا بفعل شجى القلب
وأدنو فتعصيني فأبعد طالباً ... رضاها فتعد التباعد من ذنبي
فشكواي يؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
ومنهم من تحمله الأنفة على أن يفارق بعد إظهار شدة شوق وقوة ميل وكذا شدة الإقبال من المحبوب فيتوهم حيث تشيع نفسه أن الشوق لا يعاوده فيفارق ويعود ذلك عليه بتلف نفسه والحق أن ذلك كله مع عدم التمكن وهو الموسوم بالاشراك وإلا فالصدق منه لا يرى وجوداً لسوى المحبوب ومن ثم طعن على من يرى الدنيا مثالاً لمحبوبه أو يظن وجوده ودونوا ما صدر عمن بدأ بالسلوان ثم ندم فمن ألطف ما قيل في ذلك قول الهذلي:
ويمنعني من بعض إظهار ظلمها ... إذا ظلمت يوماً وإن كان لي عذر
مخافة أني قد علمت إذا بدا ... لي الهجر منها ما على هجرها صبر
وإني لا أدري إذا النفس أشرفت ... على هجرها ما يبلغن بي الهجر
وقال ابن الجهم
نوب الزمان كثيرة وأشدها ... شمل تحكم فيه يوم فراق
يا قلب لم عرضت نفسك للهوى ... أو ما رأيت مصارع العشاق
عن كتاب "تزيين الأسواق في أخبار العشاق"لداود الأنطاكي.
سأكتم ما ألقاه يا نور ناظري ... من الأجر كيلا يذهب الأجر باطلا
فقد جاءنا عن سيد الخلق أحمد ... ومن كان براً بالعباد وواصلا
بأن الذي في الحب يكتم وجده ... يموت شهيداً في الفراديس نازلا
رواه سويد عن علي بن مسهر ... فما فيه من شك لمن كان عاقلاً
وماذا كثيراً للذي مات مغرماً ... سقيماً عليلاً بالهوى متشاغلا
وألطف من ذلك ما حكاه التاج السبكي في الطبقات الكبرى عن أبي نواس قال مضيت إلى باب أزهر والمحدثون ينتظرون خروجه فما كان إلا أن خرج وجعل يعظهم واحداً بعد واحد حتى التفت إلي فقال ما حاجتك فقلت:
ولقد كنتم رويتم ... عن سعيد عن قتادة
عن سعيد بن المسيب ... أن سعد بن عباده
قال من مات محباً ... فله أجر شهاده
فقال أزهر نعم وذكر الحديث ولأبي نواس أيضاً:
حدثنا الخفاف عن وائل ... وخالد الحذاء عن جابر
ومسعر عن بعض أصحابه ... يرفعه الشيخ إلى عامر
وابن جريج عن سعيد وعن ... قتادة الماضي وعن غابر
قالوا جميعاً أيما طفلة ... علقها ذو خلق طاهر
فواصلته ثم دامت له ... على وصال الحافظ الذاكر
كانت لها الجنة مبذولة ... تمرح في مرتعها الزاهر
وأي معشوق جفا عاشقاً ... بعد وصال ناعم ناضر
ففي عذاب اللّه مثوى له ... بعداً له من ظالم غادر
وفي رستاق الاتفاق في ملح شعراء الآفاق لابن المبارك الامام:
حدثنا سفيان عن جابر ... عن خالد عن سهل الساعدي
يرفعه من مات عشقاً فقد ... استوجب الأجر من الماجد
وأما الآثار فكثيرة لا تكاد تحصى ولكن نورد ألطفها كما هو شأننا فمن ذلك ما روى عن المهدي قال: أشتهي أن أصلي على جنازة عاشق مات في الحب وكان شريح يكثر الجلوس في الطرقات ويقول لعلي أرى صورة حسنة وكان ابن الليث قاضي مصر يكتب في فتياً فسمع جارية تقول:
ترى في الحكومة يا سيدي ... على من تعشق أن يقتلا
فرمى القلم من يده وهو يقول: لا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما :الهوى إله معبود فقيل له أتقول ذلك فقال نعم أليس الله تعالى يقول أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال العباس بن الأحنف:
ويح المحبين ما أشقى جدودهم ... إن كان مثلي الذي بي للمحبينا
يشقون في هذه الدنيا بعشقهم ... لا يدركون بها دنيا ولا دينا
يرق قلبي لأهل العشق إنهم ... إذا رأوني وما ألقى يرقونا
وله أيضاً:
أيها النادب قوماً هلكوا ... صارت الأرض عليهم طبقا
أندب العشاق لا غيرهم ... إنما الهالك من قد عشقا
وأخرج ابن الحسين الجاذري عن معن بن عيسى قال دخل ابن سحنون على مالك فقال يا إمام اجعلني في حل من أبيات قلتها فيك فقال وقد ظن أنه هجاه أنت في حل من ذلك فأنشد الأبيات بين يديه وهي:
سلوا مالك المفتي عن اللهو والغنا ... وحب الحسان المعجبات الفوارك
ينبئكم إني مصاب وإنما ... أسلي هموم النفس عني بذلك
فهل في محب يكتم الحب والهوى ... أثام وهل في ضمة المتهالك
فضحك وقال لا إن شاء الله ،وأظرف من ذلك ما أخرجه أبو نعيم في الحلية عن الربيع بن سليمان قال دخل شاب على الشافعي برقعة فوقع فيها بعدما نظر وناوله إياها فتبعته على أنها فتياً أكتبها فإذا هي:
سل العالم المكي هل في تزاوره ... وضم المشتاق الفؤاد جناح
فكتب تحته:
أقول معاذ اللّه أن يذهب التقي ... تلاصق أكباد بهن جراح
فأنكرت كتابته مثل هذا الشاب وذكرته له فقال أنه هاشمي وقد دخل بعرسه في هذا الشهر يعني رمضان فسأل عن الضم والتقبيل هل يفسدان الصوم فقلت له لا قال الربيع فعاودته فإذا الأمر كذلك فعجبت من فراسته وحكى في الأصل عن ابن حجر قال أخرج أبو نعيم أيضاً عن ابن سيرين أنهم كانوا يعشون بلا ريبة وفي الطبقات الكبرى لابن السبكي وحكاه في الأصل متردداً قال كتب جلال الدولة إلى أبي الطيب الطبري سؤالاً صورته:
يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد
من حب ظبي أهيف أغيد ... سهل المحيا حسن القد
فهل ترى تقبيله جائزاً ... في النحر والعينين والخد
من غير ما فحش ولا ريبة ... بل بعناق جائز الحد
إن أنت لم تفت فإني إذاً ... أصيح من وجدي واستعدي
فأجابه:
يا أيها السائل إني أرى ... تقبيلك العين مع الخد
يفضي إلى ما بعده فاجتنب ... قبلته بالجد والجهد
فإن من يرتع في روضة ... لا بد أن يجني من الورد
وإن من تحسبه ناسكاً ... لا بد أن يغلب بالوجد
فاستشعر العفة وأعصى الهوى ... يسلم لك الدين مع الود
تغنيك عنه كاعب ناهد ... تضمها بالملك والعقد
تملك منها كلمة تشتهي ... من غير ما فحش ولا رد
هذا جوابي لقتيل الهوى ... فلا تكن بالحق تستعدي
وأخرج الخطيب البغدادي عن الغزي قال رأيت عاشقين اجتمعا فتحدثا من أول الليل إلى الغداة ثم قاما إلى الصلاة وفي معناه أنشد العلامة محمود لنفسه وهو من لزوم ما لا يلزم
للّه وقفة عاشقين تلاقيا ... من بعد طول نوى وبعد مزار
يتعاطيان من الغرام مدامة ... زادتهما بعداً من الأوزار
صدقا الغرام فلم يمل طرف إلى ... فحش ولا كف لحل ازار
فتلاقيا وتفرقا وكلاهما ... لم يخش مطعن عائب أوزاري
ومنه ما حكى عن بعضهم قال حكت لي امرأة عن شخص هويها وهويته أنه قال لها يوماً ها لك أن نحقق ما قيل فينا فقالت معاذ الله أن أفعل ذلك وأنا أقرأ الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وقيل لأعرابي ليلة تزويج محبوبته أيسرك أن تظفر بها قال نعم قيل فما كنت تصنع بها قال أطيع الحب في لثمها وأعصي الشيطان في اثمها.
وعن الأصمعي قيل لأعرابي ما تصنع إن ظفرت بمحبوبتك قال امتع عيني من وجهها وسمعي من حديثها واستر منها ما يحرم كشفه إلا عند حله وأنشد ابن القاسم في المعنى وإن كان فيه بعد لأنك تعتبر الحياء من الايمان اللازم للعفة وخوف الله تعالى:
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وقد أودى بمعقولي
يأبى الحياء وشيبي أن ألم به ... وخشية اللوم من قال ومن قيل
وأصرح منه في المقصود ما أنشده إبراهيم بن عرفة:
كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف اللّه والحذر
وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر
أهوى الحسان وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحب لا اتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر
وأخرج صاحب الأصل عن سعيد بن عقبة الهمذاني قال لأعرابي حضر مجلسه ممن الرجل قال من قوم إذا عشقوا ماتوا فقال عذري ورب الكعبة ثم سأله علة ذلك فقال لأن في نسائنا صباحة وفي فتياتنا عفة وأخرجه في الخليفيات أيضاً وفي معناه أنشد حرب:
ما أن دعاني الهوى لفاحشة ... ألا عصاني الحياء والكرم
فلا إلى محرم مددت يدي ... ولا مشت بي لزلة قدم
هذا ما جاء في الآثار من العشق مع العفة وأما ما يدل على كثرة وقوعه واختصاص قوم بمزيد منه فكثير. فمن ذلك ما أخرجه التنوخي عن عروة بن الزبير قال قلت لعذري أنكم أرق الناس قلوباً يريد أصباهم إلى الحب فقال نعم لقد تركت ثلاثين شاباً خامرهم السل ما بهم داء إلا الحب وقيل لشخص منهم مثله فقال كقوله وزاد لكن غلبتنا بنو عامر بمجونها وفي منازل الأحباب للشهاب محمود ليس حي أصدق في الحب من بني عذرة ولا نضرب الأمثال فيه إلا بهم وقال قلت يوماً أتعدون موتكم في الحب مزية وهو من ضعف البنية وهن العقدة وضيق الرئة فقال أما والله لو رأيتم المحاجر البلج ترشق بالعيون الدعج من تحت الحواجب الزج والشفاه السمر تبسم عن الثنايا الغر كأنها شذر الدر لجعلتموها اللات والعزى وتركتم الإسلام وراء ظهوركم وعن أبي عمرو بن العلاء قال استنطقت إعرابياً عند الكعبة واستنسبته لماذا هو فصيح عذري فسألته هل علقه الحب فأنبأ عن شدة ولوع فسألته ما قال في ذلك فأنشد:
تتبعن مرمى الوحش حتى رميتنا ... من النبل لا بالطائشات المخاطف
ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف
وللعين ملهى في البلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الظرائف
وقال بعض حكماء الهند ما علق العشق بأحد عندنا إلا وعزينا أهله فيه. وحكى الحافظ مغلطاي أن العشق يختلف باختلاف أصحابه قال الغرام أشد ما يكون مع الفراغ وتكرار التردد إلى المعشوق والعجز عن الوصول إليه فعلى هذا يكون أخف الناس عشقاً الملوك ثم من دونهم لاشتغالهم بتدبير الملك وقدرتهم على مرادهم ولكن قد يتذللون للمحبوب لما في ذلك من مزيد اللذة كقول الحكم بن هشام
ظل من فرط حبه مملوكاً ... ولقد كان قبل ذاك مليكا
تركته جآذر القصر صباً ... مستهاماً على الصعيد تريكا
يجعل الخد واضعاً تحت ترب ... للذي يجعل الحرير أريكا
هكذا يحسن التذلل بالحرّ ... إذا كان في الهوى مملوكا
وقول الرشيد أيضاً
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطعيهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
وقال ابن الأحمر سلطان الأندلس:
أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي ... على كل حال أنت لا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بالهوى ... وأما بعز وهو أليق بالملك
وقال ابن طاهر صاحب خراسان:
فإني وإن حنت إليك ضمائري ... فما قدر حبي أن يذلك له قدري
ودونهم أفرغ لقلة الاشتغال حتى يكون المتفرغ له بالذات أهل البادية لعدم اشتغالهم بعوائق ومن ثم هم أكثر الناس موتاً به. ثم أعلم أن العشق متى استولى لم يبق صفة سواه ولذلك يذهب الأخلاق العسرة وقوة النفس وفي معنى ذلك أنشد بعضهم حيث قال في رسالة أرسلها إلى محبوبته:
شكوت فقالت كل هذا تبرم ... بحبي أراح اللّه قلبك من حبي
فما كتمت الحب قالت لشد ما ... صبرت وما هذا بفعل شجى القلب
وأدنو فتعصيني فأبعد طالباً ... رضاها فتعد التباعد من ذنبي
فشكواي يؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
ومنهم من تحمله الأنفة على أن يفارق بعد إظهار شدة شوق وقوة ميل وكذا شدة الإقبال من المحبوب فيتوهم حيث تشيع نفسه أن الشوق لا يعاوده فيفارق ويعود ذلك عليه بتلف نفسه والحق أن ذلك كله مع عدم التمكن وهو الموسوم بالاشراك وإلا فالصدق منه لا يرى وجوداً لسوى المحبوب ومن ثم طعن على من يرى الدنيا مثالاً لمحبوبه أو يظن وجوده ودونوا ما صدر عمن بدأ بالسلوان ثم ندم فمن ألطف ما قيل في ذلك قول الهذلي:
ويمنعني من بعض إظهار ظلمها ... إذا ظلمت يوماً وإن كان لي عذر
مخافة أني قد علمت إذا بدا ... لي الهجر منها ما على هجرها صبر
وإني لا أدري إذا النفس أشرفت ... على هجرها ما يبلغن بي الهجر
وقال ابن الجهم
نوب الزمان كثيرة وأشدها ... شمل تحكم فيه يوم فراق
يا قلب لم عرضت نفسك للهوى ... أو ما رأيت مصارع العشاق
عن كتاب "تزيين الأسواق في أخبار العشاق"لداود الأنطاكي.