شاء الله الخالق العظيم أن يخلق مخلوقات مختلفة كالإنس والجن والطير والحيوان والنبات والحشرات ... والكثير مما لا نعلم ، وجعلهم ممالك مختلفة .. كل منها ميسر لما خلق له ....
ولكن يدور السؤال :- لأى شئ خلق الإنس ؟؟؟ ولأى هدف خلق الجن ؟؟؟
وتجيء الإجابة من كتاب الله العزيز ....
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ**فَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * { الذاريات } من الآية 56
هنا تجيء الإجابة في السورة . ويتضح معنى السبب أو الوظيفة التي خلق الله العباد لها من الإنس والجن وسائر خلق الله .
هذا النص الصغير يوضح حقيقة من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها . سواء كانت حياة فرد أم جماعة ، أم حياة الإنسانية كلها
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس ... تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ; ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده ; وأصبح بلا وظيفة , وباتت حياته فارغة من الهدف , خاوية من معناها الأصيل , الذي تستمد منه قيمتها الأولى . وقد خرج من الناموس الذي خرج به إلى الوجود ، وانتهى إلى الضياع المطلق .
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود . هي العبادة لله . أو هي العبودية لله . . أن يكون هناك عبد ورب . عبد يَعبد , ورب يُعبد . وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار .
ويتبادر للذهن سريعا سؤال آخر :- هل المقصود بالعبادة هو إقامة الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والحج فقط ؟؟؟ هل هى حركات وطقوس تؤدى وتسمى بذلك عبادة ؟؟؟؟
لا والله .. فمدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر . فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر ; والله لا يكلفهم هذا . وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم ، وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن ; ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان . نعرفها من القرآن من قول الله تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة). .
فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني . وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض , والتعرف إلى قواها وطاقاتها , وذخائرها ومكنوناتها , وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها . كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام . وبمعنى آخر هى كل عمل يقوم به الإنسان يبتغى فيه وجه الله ويكون مخلصا له هذا العمل .
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى , أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ; وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا . وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين متلازمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر :-
الأول:- هو استقرار معنى العبودية لله في النفس . أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا . عبدا يَعبد , وربا يُعبد . وأن ليس وراء ذلك شيء ; وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ; وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني:- هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير , وكل حركة في الجوارح , وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة , والتجرد من كل شعور آخر ; ومن كل معنى غير معنى التعبد لله . ( الإخلاص فى القول والفعل لله )
* وكثيرا ما نسمع شخص يقول لك ( الحمد لله يا عم أنا طول عمرى لا كذبت ولا نافقت ولا زنيت ولا سرقت ... وتسأله ... طب صليت ؟؟؟ يرد ويقول .. لأ خللى الصلاة على جنب دلوقتى دى حاجة بينى وبين ربنا !!!!!!! )
* وصنف آخر تراه لا يغادر فرضا فى المسجد ويؤدى النوافل وصيام الإثنين والخميس من كل أسبوع وووو ... ثم تراه يحلف بالله على تجارته أنه لا ي**ب منها كذبا بغرض زيادة البيع ، وتراه يسب ويلعن ويتلفظ بالبذئ من القول ، ويؤذى جيرانه ... وووو .
هذان مثالان بعيدان كل البعد عن مقصدنا ... أسأل الله لى ولكم ألا نكون منهما .
لكن الأمرين الأساسيين المذكورين سابقا مجتمعين تتحقق بهما معنى العبادة ; ويصبح العمل كالشعائر , والشعائر كعمارة الأرض , وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله , والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله . . كلها عبادة ; وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ; وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعرا أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى , جاء لينهض بها فترة , طاعة لله وعبادة له لا غاية له هو فيها , ولا غاية له من ورائها , إلا الطاعة , وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله , ومن أنس برضى الله عنه , ورعايته له . ثم يجده في الآخرة تكريما ونعيما وفضلا عظيما .
عندئذ فقط يكون قد لجأ إلى الله حقا . يكون قد فر من زخرف هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة . ويكون قد تحرر بهذا الفرار . تحرر حقيقة من الهموم والأثقال . وخلص لله , واستقر في الوضع الكوني الأصيل:عبدا لله . خلقه الله لعبادته . وقام بما خلق له . وحقق غاية وجوده . فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض , وينهض بتكاليفها , ويحقق أقصى ثمراتها ; وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها ; خالص القلب من جواذبها ومغرياتها . ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها . ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها , ثم الفرار إلى الله منها !
ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها . فلتكن النتائج ما تكون . فالإنسان غير معلق بهذه النتائج . إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال ; ولأن جزاءه ليس في نتائجها , إنما جزاؤه في العبادة التي أداها . .
ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيرا كاملا تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال . فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها . ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته . ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك . فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه , وليست من شأنه . إنما هو قدر الله ومشيئته . وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته .
ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد ; وشعر أنه أخذ نصيبه , وضمن جزاءه , بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد , فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة . فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف . ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض , وثمرات هذا النشاط . فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته .
والقرآن الكريم يغذي هذا الإحساس ويقويه . بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهم الرزق ومن شح النفس . فالرزق في ذاته مكفول . تكفل به الله تعالى لعباده . وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه - سبحانه - أو يرزقوه . حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه , والقيام بحق المحرومين فيه:
(ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)
وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق . بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة , الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة . ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد , طليقا من التعلق بنتائج الجهد . . وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصوير الكريم .
وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها , فذلك لأنها لم تعش - كما عاش جيل المسلمين الأول - في ظلال هذا القرآن . ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم .
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق . أفق العبادة . أو أفق العبودية . ويستقر عليه , فإن نفسه تأنف حتما من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة . ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا . فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم . ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات , إنما يعني نفسه بأداء الواجبات , تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء . أما الغايات فموكولة لله , يأتي بها وفق قدره الذي يريده . ولا داعي لابتذال الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله , وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله .
ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير , وطمأنينة النفس , وصلاح البال , في جميع الأحوال . سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها . تحققت كما قدرها أم على ع** ما قدرها . فهو قد أنهى عمله , وضمن جزاءه , عند تحقق معنى العبادة . واستراح . وما يقع بعد ذلك خارج عن حدود وظيفته . . وقد علم هو أنه عبد , فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد . وعلم أن الله رب , فلم يعد يتقحم فيما هو من شؤون الرب . واستقرت مشاعره عند هذا الحد , ورضي الله عنه , وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة , التي تقررها آية واحدة قصيرة { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } . وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عندما تستقر حقا في الضمير . . .
الموضوع من كتاب : الظلال
( بتصرف )
ولكن يدور السؤال :- لأى شئ خلق الإنس ؟؟؟ ولأى هدف خلق الجن ؟؟؟
وتجيء الإجابة من كتاب الله العزيز ....
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ**فَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * { الذاريات } من الآية 56
هنا تجيء الإجابة في السورة . ويتضح معنى السبب أو الوظيفة التي خلق الله العباد لها من الإنس والجن وسائر خلق الله .
هذا النص الصغير يوضح حقيقة من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها . سواء كانت حياة فرد أم جماعة ، أم حياة الإنسانية كلها
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس ... تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ; ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده ; وأصبح بلا وظيفة , وباتت حياته فارغة من الهدف , خاوية من معناها الأصيل , الذي تستمد منه قيمتها الأولى . وقد خرج من الناموس الذي خرج به إلى الوجود ، وانتهى إلى الضياع المطلق .
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود . هي العبادة لله . أو هي العبودية لله . . أن يكون هناك عبد ورب . عبد يَعبد , ورب يُعبد . وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار .
ويتبادر للذهن سريعا سؤال آخر :- هل المقصود بالعبادة هو إقامة الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والحج فقط ؟؟؟ هل هى حركات وطقوس تؤدى وتسمى بذلك عبادة ؟؟؟؟
لا والله .. فمدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر . فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر ; والله لا يكلفهم هذا . وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم ، وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن ; ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان . نعرفها من القرآن من قول الله تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة). .
فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني . وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض , والتعرف إلى قواها وطاقاتها , وذخائرها ومكنوناتها , وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها . كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام . وبمعنى آخر هى كل عمل يقوم به الإنسان يبتغى فيه وجه الله ويكون مخلصا له هذا العمل .
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى , أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ; وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا . وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين متلازمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر :-
الأول:- هو استقرار معنى العبودية لله في النفس . أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا . عبدا يَعبد , وربا يُعبد . وأن ليس وراء ذلك شيء ; وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ; وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني:- هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير , وكل حركة في الجوارح , وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة , والتجرد من كل شعور آخر ; ومن كل معنى غير معنى التعبد لله . ( الإخلاص فى القول والفعل لله )
* وكثيرا ما نسمع شخص يقول لك ( الحمد لله يا عم أنا طول عمرى لا كذبت ولا نافقت ولا زنيت ولا سرقت ... وتسأله ... طب صليت ؟؟؟ يرد ويقول .. لأ خللى الصلاة على جنب دلوقتى دى حاجة بينى وبين ربنا !!!!!!! )
* وصنف آخر تراه لا يغادر فرضا فى المسجد ويؤدى النوافل وصيام الإثنين والخميس من كل أسبوع وووو ... ثم تراه يحلف بالله على تجارته أنه لا ي**ب منها كذبا بغرض زيادة البيع ، وتراه يسب ويلعن ويتلفظ بالبذئ من القول ، ويؤذى جيرانه ... وووو .
هذان مثالان بعيدان كل البعد عن مقصدنا ... أسأل الله لى ولكم ألا نكون منهما .
لكن الأمرين الأساسيين المذكورين سابقا مجتمعين تتحقق بهما معنى العبادة ; ويصبح العمل كالشعائر , والشعائر كعمارة الأرض , وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله , والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله . . كلها عبادة ; وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ; وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعرا أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى , جاء لينهض بها فترة , طاعة لله وعبادة له لا غاية له هو فيها , ولا غاية له من ورائها , إلا الطاعة , وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله , ومن أنس برضى الله عنه , ورعايته له . ثم يجده في الآخرة تكريما ونعيما وفضلا عظيما .
عندئذ فقط يكون قد لجأ إلى الله حقا . يكون قد فر من زخرف هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة . ويكون قد تحرر بهذا الفرار . تحرر حقيقة من الهموم والأثقال . وخلص لله , واستقر في الوضع الكوني الأصيل:عبدا لله . خلقه الله لعبادته . وقام بما خلق له . وحقق غاية وجوده . فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض , وينهض بتكاليفها , ويحقق أقصى ثمراتها ; وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها ; خالص القلب من جواذبها ومغرياتها . ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها . ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها , ثم الفرار إلى الله منها !
ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها . فلتكن النتائج ما تكون . فالإنسان غير معلق بهذه النتائج . إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال ; ولأن جزاءه ليس في نتائجها , إنما جزاؤه في العبادة التي أداها . .
ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيرا كاملا تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال . فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها . ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته . ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك . فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه , وليست من شأنه . إنما هو قدر الله ومشيئته . وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته .
ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد ; وشعر أنه أخذ نصيبه , وضمن جزاءه , بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد , فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة . فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف . ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض , وثمرات هذا النشاط . فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته .
والقرآن الكريم يغذي هذا الإحساس ويقويه . بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهم الرزق ومن شح النفس . فالرزق في ذاته مكفول . تكفل به الله تعالى لعباده . وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه - سبحانه - أو يرزقوه . حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه , والقيام بحق المحرومين فيه:
(ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)
وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق . بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة , الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة . ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد , طليقا من التعلق بنتائج الجهد . . وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصوير الكريم .
وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها , فذلك لأنها لم تعش - كما عاش جيل المسلمين الأول - في ظلال هذا القرآن . ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم .
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق . أفق العبادة . أو أفق العبودية . ويستقر عليه , فإن نفسه تأنف حتما من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة . ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا . فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم . ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات , إنما يعني نفسه بأداء الواجبات , تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء . أما الغايات فموكولة لله , يأتي بها وفق قدره الذي يريده . ولا داعي لابتذال الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله , وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله .
ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير , وطمأنينة النفس , وصلاح البال , في جميع الأحوال . سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها . تحققت كما قدرها أم على ع** ما قدرها . فهو قد أنهى عمله , وضمن جزاءه , عند تحقق معنى العبادة . واستراح . وما يقع بعد ذلك خارج عن حدود وظيفته . . وقد علم هو أنه عبد , فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد . وعلم أن الله رب , فلم يعد يتقحم فيما هو من شؤون الرب . واستقرت مشاعره عند هذا الحد , ورضي الله عنه , وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة , التي تقررها آية واحدة قصيرة { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } . وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عندما تستقر حقا في الضمير . . .
الموضوع من كتاب : الظلال
( بتصرف )